أ - الوصل
نماذج
1 - قال الله تعالى :
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).
[ الانفطار ] .
2 - و قال تعالى :
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
[ البقرة : 83 ] .
3 - و قال تعالى :
( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)
[ الغاشية ] .
4 - قال بشار بن برد :
بِضرْبٍ يَذُوقُ الموتَ مَنْ ذاق طعمَهُ و تُدركُ منْ نَجَّى الفِرارُ مَثالِبُه
5 - قال المتنبي :
أعَزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ و خيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ
6 - قال أبو العتاهية :
اخْزِنْ لِسانَك بالسكوت عن الخَنا و احذرْ عليك عواقبَ الأقوالِ
7 - سأل أمير نائبه عن شيء فقال :
لا ، و أيَّد الله الأميرَ .
نظرة تحليلية :
لو تأملنا الآية الكريمة في المثال الأول لوجدناها تتألف من جملتين : الأولى : إن ( الأبرار ) لفي نعيم ،
و الثانية : إن الفجار ( لفي ) جحيم . و هما جملتان خبريتان لفظا و معنى ، كل منهما مستقلة عن الأخرى ، و لكن هناك صلة واضحة بين المعنيين فيهما عن طريق التقابل ، فالأبرار في الجنة ، و الفجار في النار ، و لهذا عطفت الجملة الثانية على الأولى بالواو . و نسمي هذا العطف وصلاً . فالوصل إذن معناه عطف جملة على أخرى بالواو خاصة ، لأن العطف بالواو يحتاج إلى دقة في الإدراك و حسن الفهم لكونها تدل على مطلق الجمع و الاشتراك ، بينما تدل الفاءُ مثلا على الترتيب مع التعقيب في مثل قولك : دخل فسلم و جلس فتكلم . و تدل ( ثُمَّ ) على الترتيب مع التراخي في مثل قولك : نام مساء ثم استيقظ صباحاً . فاستخدم الفاء و ثُمَّ - كما ترين - محدد تماماً ، أما استخدام الواو في الوصل بين الجمل أو عدم استخدامها للفصل بينها فأمر يحتاج إلى دقة الفهم و حسن الإدراك ، و لهذا قيل قديماً في تعريف البلاغة إنها معرفة الفصل من الوصل .
و ما من شك في أن القيمة الجمالية للمعنى ترتبط إلى حد كبير بإدراكنا الصحيح للمواضع التي ينبغي لنا فيها أن نصل أو نفصل بين الجمل ، لأننا إذا وصلنا بين الجمل في مواضع ينبغي الفصل فيها ، أو فصلنا بين جمل كان ينبغي لنا أن نصل بينها ، فإننا نسلب المعنى قيمته ، و لا نصل به إلى الغاية التي نريدها منه .
و قياساً على وصل الجملتين الخبريتين لفظاً و معنى اللتين يوجد بينهما تناسب يمكن وصل الجملتين الإنشائيتين لفظاً و معنى ، كقوله تعالى :
(فليضحكوا قليلا، وليبكوا كثيرَا).
[ التوبة : 82 ] .
و ترين في الآية الثانية من النماذج جملتين إنشائيتين معنى لا لفظاً ، و لكن وصل بينهما لأن العبرة في الاتفاق بين الجملتين خبراً أو إنشاءً هو المعنى ، فقوله : ( لا تعبدون ) بمعنى : لا تعبدوا ، و قوله : ( إحساناً ) بمعنى : أحسنوا .
و في المثال الثالث ترين أربع جمل موصولة في الآية الكريمة ، ربما ظن الناظر إليها لأول وهلة عدم وجود تناسب بين الإبل و السماء و بينهما و بين الجبال و الأرض ، و لكن لما كان الخطاب مع العرب فهو يطابق ما في مخيلتهم من حيث مناسبة هذه الأشياء بعضها لبعض ، فالإبل رأس المنافع عندهم ، تلزم الأرض لرعيها ، و السماءُ لسقيها ، و هي التي تحملهم إلى الجبال التي يأوون إليها و يتحصنون بها ، فصور هذه الأشياء ماثلة متناسبة في أذهان العرب من أهل الوبر و هم الغالبية و الكثرة ، و لا يوجد بينها أي انفصال أو عدم تناسب ، بل على العكس يوجد بينها جامع مشترك .
و التناسب بين الجملتين ، أو الأمر المشترك الجامع بينهما شرط ضروري للوصل و يمكنك أن تتأكدي من أهمية هذا الشرط لو تأملت بيت أبي تمام الذي يقول فيه :
لا و الذي هو عالمٌ أنَّ النَّوى صَبِرٌ و أنَّ أبا الحسين كَريمُ فستجدين أن الجملتين اللتين وصل بينهما متفقتان خبراً ، و لكن لا توجد بينهما أي مناسبة تجمع بين مرارة البعاد و كرم الممدوح أبي الحسين .
و إذا تأملت بيت بشار بن برد في المثال الرابع وجدت أن للجملة الأولى موضعاً من الإعراب ، و هي قوله : ( يذوق الموت من ذاق طعمه ) لأنها صفة للنكرة قبلها ( ضرب ) و قد وصل الشاعر بين الجملة الثانية و هي قوله : ( تدرك من نجى الفرار مثالبه ) و بين الجملة الأولى لأنه أراد إشراك الجملة الثانية مع الأولى في الحُكْم الإعرابي . و كل جملتين قُصِدَ إشراك الثانية منهما في الحكم الإعرابي للأولى - مثل كونها خبر مبتدأ ، أو حالا ، أو صفة ، أو نحو ذلك - وجب الوصل بينهما .
و ترين في بيت المتنبي في المثال الخامس جملتين متحدتين خبراً ، متناسبتين في المعنى ، و ليس هناك ما يدعو للفصل بينهما ، و لهذا وصلت الثانية بالأولى و كذلك الشأن في بيت أبي العتاهية إذ تجدين في جملتين متحدتين ، إنشاءً ، مناسبتين في المعنى ، و لا موجب للفصل بينهما ، فلا بد إذن من وصلهما .
أما المثال السابع فهو يتألف من جملتين : الأولى : لا ، التي تقوم في هذا الموضع مقام جملة خبرية تقديرها ( لا حاجة لي ) ، و الجملة الثانية خبرية لفظاً و لكنها إنشائية معنى ، و العبرة - كما قلنا - بالمعنى . فالمفروض ألاّ يكون هناك وصل بين الجملتين بسبب اختلافهما ، و لكن إذا فصل بينهما المتكلم و قال : لا أيد الله الأمير ، لأيقن الأمير أن القائل يدعو عليه في حين أنه قصد الدعاء له . و لذلك وجب الاستغناء عن الفصل بينهما .
و هكذا ينبغي الوصل دائماً بين كل جملتين اختلفتا خبراً و إنشاءً من ناحية المعنى و كان ترك الوصل بينهما يؤدي عكس المفهوم المقصود .
و يتبين لنا مما سبق أن الوصل بين جملتين ( أو أكثر ) معناه العطف بالواو ، و أنه لابد من استخدام الوصل إذا اتفقت الجملتان خبراً أو إنشاءً ( و العبرة بالمعنى دون اللفظ ) ، و كانت بينهما مناسبة ، و لم يكن هناك ما يوجب الفصل بينهما . و ينبغي الوصل أيضاً بين الجملتين إذا قصد إشراكهما في الحُكم الإعرابي ، أو إذا اختلفت الجملتان خبراً و إنشاءً ، و أدى الفصل بينهما خلاف المعنى المقصود .
ب - الفصل : كمال الانقطاع
نماذج
1 - قال الله تعالى :
( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ).
[ نوح : 10 ]
2 - تقولين لزميلتك في المدرسة :
سافر أبي في عمل ، أعانه الله .
3 - جاءَ في الحِكَم :
رأس الحكمة مخافة الله ، الحسود لا يسود .
4 - قال أبو العتاهية :
سبحانَ مَنْ لا شيء يَعْدِلُهُ كم من بصير قلبُه أعْمَى
نظرة تحليلية :
عرفنا من الدرس السابق أن الوصل معناه عطف جملة على أخرى بالواو . و من اليسير علينا أن ندرك أن الفصل نقيض الوصل ، أي أن معناه ترك العطف بين الجملتين .
و لما كنا قد عرفنا المواضع التي تقتضي ضرورة الوصل فينبغي لنا أن نعرف المواضع التي تقتضي ضرورة الفصل ، لنصيب المعاني التي نريدها و نحقق لها الوضوح و الجمال و القوة .
و لو تأملنا الآية الكريمة في المثال الأول لوجدنا أنها تتألف من جملتين ، الأولى : (( استغفروا ربكم )) و الثانية : (( إنه كان غفاراً )) . و لما كنا قد عرفنا من الدرس السابق أننا لا نستطيع أن نصل بين جملتين إلا إذا كانتا متحدتين خبراً أو إنشاءً لفظاً و معنى ، مع وجود تناسب بينهما ، أو كان ترك الوصل بينهما يؤدي عكس المعنى المقصود ، فلهذا ينبغي الفصل بين الجملتين في هذه الآية لأن الجملة الأولى إنشائية و الثانية خبرية و لا موجب لوصلهما .
أما في المثال الثاني فأنت تقولين لزميلتك بالمدرسة : سافر أبي في عمل ، و هذه جملة خبرية لفظاً و معنى ، ثم تتبعينها بجملة أخرى دعائية فتقولين أعانه الله ، و هي جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى ، كما عرفنا من الدرس السابق ، و لهذا وجب عليك أن تفصلي بين الجملتين لاختلافهما من ناحية الخبر و الإنشاء معنى . و الذي أوجب عليك هذا الفصل أيضاً عدم وجود ما يوهم خلاف المعنى الذي تقصده . بعكس ما رأيت في قول نائب الأمير في الدرس السابق : لا و أيدك الله ، الذي اضطر فيه إلى الوصل .
و ترين في المثال الثالث حكمتين متعاقبتين ، ليس هناك ما يجمع بينهما من ناحية المعنى ، فالحكمة الأولى توصي الإنسان بخوف الله في كل ما يفعله حتى لا يقع في خطأ يستوجب غضب الله عليه وعقوبته ، و لو فعل الإنسان ذلك لبلغ الغاية في الحكمة و التعقل . أما الحكمة الثانية فهي تعظ الإنسان بألَّا يكون حاسداً لغيره ، ناظراً إلى ما في أيدي الناس ، و إلى ما يصيبهم من الخير ، لأنه إن فعل ذلك ركبه الهم و ألهاه عن التفكير في نفسه و ما ينبغي أن يصيبه من النعمة . فكل حكمة إذن تؤدي معنى مستقلا عن معنى الحكمة الأخرى ، و لهذا وجب الفصل بين الجملتين ، و قد سبق لك أن عرفت من الدرس السابق ضرورة وجود تناسب في المعنى بين الجملتين الموصولتين ، عن طريق التماثل ، أو الاشتراك ، أو التضاد ، فأنت تستطيعين أن تَصلي فتقولين كان جرير شاعراً و الحجاج خطيباً ، و لكنك لا تستطيعين الوصل إن قلت : كان جرير قصيراً و الحجاج خطيباً ، لانعدام التناسب في المعنى بين الجملتين . فالفصل إذن ضرورة في حالة عدم وجود تناسب في المعنى بين الجمل المتعاقبة .
كذلك الأمر بالنسبة لبيت أبي العتاهية الذي يتألف من جملتين لا جامع بينهما ، الأولى : سبحان من لا شيء يعدله . أي أسبح الله الذي لا يوازيه شيء في الوجود ، و الثانية : كم من بصير قلبه أعمى ، أي أن كثيراً من المبصرين الذين سلمت عيونهم من الآفات عاجزون عن الرؤية بقلوبهم ، تنقصهم البصيرة و الإدراك لأنهم بعيدون عن الهداية و الإيمان . فالمعنيان - كما ترين - لا توجد صلة بينهما و لهذا وجب الفصل في هذا الموضع .
و يمكنك أن تتبيني من هذه الأمثلة أن الفصل الذي تم بين الجُمل سببه الانقطاع الكامل فيما بينهما من ناحية اختلاف الجملتين خبراً و إنشاءً ، لفظاً و معنى ، أو اختلافهما خبراً و إنشاءً معنى فقط ، أو لعدم وجود جامع بينهما و لهذا نقول إن الفصل تم في هذه الجمل بسبب كمال الانقطاع .
جـ - الفصل : كمال الاتصال و شبهه
نماذج
1 - قال الله تعالى :
(وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
[ لقمان : 7 ] .
2 - قال ابن نباتة السَّعدي :
لم يُبق جودُك لي شيئاً أُؤَمِّله تركتني أصحبُ الدنيا بلا أمَلِِ
3 - قال الله تعالى :
( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ )
[ الأعراف : 141 ] .
4 - و قال تعالى :
|(اتبعوا المرسلين *اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون).
[ يس ] .
5 - قال النابغة الذبياني يرثي أخاً له :
حسْبُ الخليلين نَأْيُ الأرض بينهما هذا عليها و هذا تحتها بالي
6 - قال الله تعالى :
(وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي إِنَّ النَّفْس لَأَمَّارَة بِالسُّوءِ )
[ يوسف : 53 ] .
نظرة تحليلية :
عرفنا من الدرس السابق ، أن كمال الانقطاع بين الجملتين يوجب الفصل بينهما ، و إذا تأملت هذه المجموعة من النماذج التي أمامك وجدت أن الجُمل فيها منفصلة أيضاً ، و لكن ليس بسبب كمال الانقطاع بينها .
انظري قوله تعالى في المثال الأول : كأن لم يسمعها ، كأن في أُذنيه وقراً ، تجدي الجملتين منفصلتين و لكن بينهما اتصال كامل ، لأن معنى الجملة الثانية هو نفسه معنى الجملة الأولى ، فكأن الجملة الثانية تأكيد لمعنى الأولى و تقرير له حتى يوقن السامع بأن المعنى الذي تبادر إليه في الجملة الأولى صحيح لا شبهة فيه .
و نرى الشاعر في المثال الثاني يقول لممدوحه إن كرمه الذي أغدقه على الشاعر قد حقق له كل ما يتمناه ، فلم يبق لديه أمل واحد دون أن يتحقق . ثم يقول في الجملة الثانية إنه يعيش دون أن يأمل في شيء لأن كل آماله تحققت . و لا بد أنكِ لاحظت وجود اتصال كامل بين الجملتين ، و أن الجملة الثانية بمثابة التأكيد اللفظي لمعنى الجملة الأولى ، و أن المقصود به إقناع السامع بصدق المعنى الذي تبادر إليه في الجملة الأولى ، و من أجل هذا تم فصل الجملتين .
و تفصل الآية الكريمة في المثال الثالث بين جملتين : الأولى : (( يسومونكم سوءَ العذاب )) ، و الثانية : (( يقتلون أبناءكم )) . و هنا لا نجد الجملة الثانية مؤكدة للأولى كما رأينا في المثالين السابقين ، بل نجدها بدلا منها : فالجملة الأولى تذكر لنا أن آل فرعون قد أذاقوا بني إسرائيل العذاب ، و لكنها لم تبين نوع العذاب ، فأتت الجملة الثانية لتفصِّل لنا ما أجملته الأولى . و تدلنا على نوع من العذاب ، و هو قتل أطفال بني إسرائيل . فكأن الجملة الثانية بالنسبة للأولى ( بدل بعض من كل ) فبينهما لهذا السبب اتصال كامل في المعنى و هنا يجب الفصل .
و إذا تأملت الآية الكريمة في المثال الرابع وجدت الأمر فيها كسابقتها . ففي الجملة الأولى يأمر الله تعالى باتباع المرسلين الذين يبعثهم في كل زمان لهداية الناس ، و لكنه لم يفصِّل القول في وصف المرسلين الذين يجب على الناس اتباعهم ، بل فعل ذلك في الجملة الثانية إذ قال جلَّ وعلا : اتبعوا المرسلين الذين لا يطلبون أجراً على إبلاغ رسالة الله إلى الناس ، و هم على هدى من ربهم . فالجملة الثانية - كما ترين - ( بدل اشتمال من الأولى ) ، فهي أوفى منها بتأدية المعنى لحمل المخاطبين على اتباع المرسلين . و بسبب هذا الاتصال الكامل في معناهما فصل بينهما .
و نرى في المثال الخامس النابغة الذبياني يرثي أخاه فيقول في الجملة الأولى : يكفي الصاحبين من العذاب بُعد ما بينهما من الأرض . و لعلك تحسين في هذا المعنى غموضاً و إبهاماً أحسهما الشاعر نفسه فأتى بالجملة الثانية لتكون بياناً للأولى و إيضاحاً يزيل الخفاءَ و الإبهام فقال : إنه يقصد ببُعد ما بينهما من الأرض أن أخاه الذي مات أصبح رميماً بالياً في بطن الأرض ، و أن الشاعر يحيا فوق ظهر الأرض ، فكأن الأرض نفسها صارت حاجزاً منيعاً بينهما . و لما كانت الجملة الثانية بياناً و إيضاحاً للأولى ، فبينهما إذن كمال اتصال يُلزمنا الفصل بينهما .
من هذه النماذج الخمسة التي مرت بنا يتبين لنا أن الفصل بين الجملتين ضروري إذا كان بينهما كمال اتصال ، فتكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى ، أو بدلا منها ، أو بياناً لها . و إنما يوجب كمال الاتصال الفصل بين الجملتين لأن معناه وجود مناسبة قوية بينهما حتى لكأن إحداهما الأخرى ، فلو وصلنا بين الجملتين و عطفنا الثانية على الأولى لأشبه ذلك عطف الشيء على نفسه .
و لو تأملت المثال الأخير لوجدت قوله تعالى يتألف من جملتين : الأولى ( و ما أُبرئُ نفسي ) و هذا القول جاءَ على لسان امرأة العزيز و هي تعترف على نفسها بتهمة كيدها ليوسف عليه السلام . و لو سكتت القائلة عند هذا الحد لأثارت سؤالاًً في نفس من يسمعها : و هل النفس تأمر صاحبها بالسوء ؟ فكأنها حين استأنفت كلامها قائلة : " إن النفس لأمارة بالسوء " أجابت عن سؤال محتمل يربط بين المعنى في الجملتين و لا يوجد في هذا النوع كمال اتصال ، بل شبه كمال اتصال ، لأن الجواب في الجملة الثانية عن سؤال تثيره الجملة الأولى يجعلهما بمنزلة المتصلتين تمام الاتصال و إن لم يوح ظاهرهما بذلك ، فلو أنك قلت لي : أكرمت محمداً ، محمد جدير بالإِكرام ، لكنت تبادرين بجواب عن سؤال متوقع لي : و لماذا خصصت محمداً بالإكرام . و المقصود بهذا النوع - و هو شبه كمال الاتصال - تنبيه السامع على موقع الجواب و إعفاؤه من السؤال .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق