الخميس، 5 فبراير 2015

علم المعاني _ الذكر والحذف _(ذكر المسند و المسند إليه، وحذفه، وحذف المفعول به)






أ - ذكر المسند و المسند إليه





       نماذج


1 - قال الله تعالى :
( وَإِنَّ مِنهُم لَفَرِيقًا يَلوُونَ أَلسِنَتَهُم بِالكِتَابِ لِتَحسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِن عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِن عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُم يَعلَمُونَ).

  [ آل عمران : 78 ] .

2 - و قال تعالى :
 ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيم )
    [ يس ] .

3 - قال عمرو بن كلثوم  :

و قَدْ عَلِم القبائِلُ مِنْ مَعَدٍّ         إذا قُبَبٌ بِأبْطَحِها بُنِينا
بأنَّا المُطْعِمُونَ إذا قدرنا          و أنَّا المُهلكون إذا ابتُلِينا
و أنَّا المانعون لما أردنا        و أنَّا النازلون بحيث شِينا


4 - قال محمد حسن فقي :

اللهُ شاءَ بأَنْ يكون منارةً        شمَّاءَ بين مَفاوِزٍ و هضابِ
و اللهُ شاءَ بأن يكون مثابةً     للناس بعد تَفَرُّقٍ و تَبابِ
و اللهُ شاءَ بأن تكون شريعةً    سمحاءَ دعوتُه مدى الأحقاب
و اللهُ شاءَ لمصطفاه مكانة      جَلَّت برفعتها على الآراب





         نظرة تحليلية :

عرفت في مشاركة سابقة أن أساس المعنى في الجملة الخبرية أو الإنشائيّة هو ما نسميه بالإسناد ، و هو يقوم في الجملة الاسمية على ركنين أساسيين : المبتدأ و الخبر ، و في الجملة الفعلية على : الفعل و الفاعل ، و الركن الأول في الجملة الاسمية و هو المبتدأ مخبر عنه ، و كذلك الفاعل في الجملة الفعلية ، و لهذا نسمي كلاً منها المسند إليه ، و كأننا أسندنا الخبر للمبتدأ في الجملة الاسمية ، و الفعل للفاعل في الجملة الفعلية . أما الركن الثاني الذي أسندناه و هو الخبر في الجملة الاسمية ، و الفعل في الجملة الفعلية فهو مخبر به و نسميه المسند ، و من الطبيعي ألا تفيد الجملة معنى كاملا إلا بذكر الطرفين : المسند و المسند إليه ، غير أننا نحس في التراكيب اللغوية التي نستخدمها في حياتنا العادية ، أو التي نقرؤها في النصوص النثرية و الشعرية بأن ذكر المسند أو المسند إليه في بعض الجمل ليس ضرورياً ، و أننا لو تركناه لما حدث أدنى التباس في المعنى المقصود ، إذ نجد في الجملة نفسها أو في سابقتها ما يدل على ما يمكن تركه سواء أكان المسند أم المسند إليه .

و لما كان الأصل في التعبير أن يكون بالقدر الذي يتطلبه المعنى دون زيادة ، فالإبقاء على المسند أو المسند إليه حين يمكن الاستغناء عن أيهما – ضرورة بلاغية يستدعيها الموقف .

و لو أننا تأملنا النماذج السابقة لوجدنا في المثال الأول أن معنى قوله سبحانه و تعالى :( وَإِنَّ مِنهُم لَفَرِيقًا يَلوُونَ أَلسِنَتَهُم بِالكِتَابِ لِتَحسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِن عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِن عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُم يَعلَمُونَ).
إن جماعة من أهل الكتاب و هم اليهود الذين كانوا حول مدينة الرسول   على عهده يحرفون كلام الله لتظنوا أنه من وحيه و تنزيله ، و ما ذلك الذي لووا به أَلسنتهم فحرفوه و أحدثوه من كتاب الله ، و هم يزعمون أن ما لووا به أَلسنتهم من التحريف و الكذب و الباطل فألحقوه في كتاب الله من عند الله و مما أنزله – جل شأنه - على أحد أنبيائه ، و لكنه في الحقيقة مما أحدثوه بأنفسهم افتراء على الله ، و هم يتعمدون قول الكذب على الله مع علمهم سوءَ ما يفعلون . ففي هذه الآية يخص الله – تبارك و تعالى – بالذكر جماعة من أهل الكتاب ، و يركز على فعل سيء يقومون به – و هو تحريف ما أنزل الله - ، ثم محاولتهم إقناع الناس بأن ما حرفوه هو من عند الله . و يثير – جل و علا – انتباهنا إلى كذبهم ، و نفي تحريفهم عن كتاب الله و ما أنزله . و كانت وسيلة القرآن الكريم إلى تأكيد معان بعينها ، و نفي أخرى في هذه الآية ، و تقرير ذلك كله في أذهاننا الاعتماد على ذكر المسند إليه أكثر من مرة ، مع إمكان الاستغناء عنه ، لولا هذه الضرورة البلاغية و هي تأكيد المعنى و إقراره في نفوسنا و أذهاننا . ففي قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ)

   نعلم أن الضمير ( هو ) عائد إلى ما لووَا به ألسنتهم ؛ أي التحريف الذي أحدثوه . و لن يحدث في أذهاننا أي لبس في المعنى المقصود لو حذفنا المسند إليه و هو الضمير ، و لكن ذكره في كل جملة من الآية أطلعنا بوضوح على محاولة المُضِلِّين تأكيد نسبة التحريف إلى ما أنزله الله ، و نبهنا بقوة إلى نفي التحريف عما أنزله تبارك و تعالى .

و نرى في المثال الثاني في الجواب على السؤال : من يحيي العظام و هي رميم ؟ ذكراً للفعل ( يحييها ) و هو المسند مع إمكان تركه ، و يكون جواب السؤال : الله ، أو الذي أنشأها أول مرة ، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تُرك فيها المسند و هو الفعل في جواب السؤال ، و هذا أمر طبيعي لوجود ما يدل عليه في السؤال نفسه ، و هو الفعل ذاته كما نرى في الآية الكريمة (من يحى)      . و ترك الفعل في جواب السؤال مألوف في كلامنا العادي ، فحين تسمع مدرسك يسأل : من غاب أمس ؟ فتجيبه : محمد . و مفهوم أنك تعني : غاب محمد . فما الغاية إذن من ذكر الفعل في الآية الكريمة ؟ لو أنك تأملت في سؤال مدرسك لوجدت أنه يهتم بمعرفة المسند إليه و هو الفاعل أي الذي غاب ، أما المسند - و هو الفعل نفسه - فهو مفهوم من السياق و لا داعي لذكره ، أما السؤال في الآية الكريمة فهو صادر ممن يشك في الفعل و الفاعل على السواء ، و يريد الاستفسار عنهما معاً ، فذكر الفعل هنا ضرورة بلاغية مؤكدة لإِثبات معجزة الإِحياء و القدرة على بث الحياة في العظام بعد أن صارت رميماً ، ثم إثبات هذه القدرة لله و إسناد المعجزة إليه ، بدليل عدم اكتفاء الآية بالقول : يحييها الله ، بل ( يحييها الذي أنشأها أول مرة ) أي خالقها ابتداء قبل أن تكون موجودة أصلاً .

و نرى في المثال الثالث الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في مقام الفخر بقبيلته ، فهم كرماء يقدمون ما عندهم من طعام لضيوفهم ، و هم أبطال حرب قادرون على إهلاك أعدائهم ، و هم أقوياء بحيث يستطيعون - لو شاءُوا - أن يمنعوا القبائل الأخرى من النزول في أرض للرعي ، أو لورود الماء . أما قبيلته فهي تنزل حيث تشاء ، لا يقدر أحد على منعها .

و إذا تأملت الأبيات وجدت أن الشاعر ذكر المسند إليه ( و هو الضمير اسم أن ) أربع مرات ، و كان يمكنه الاكتفاء بذكره في المرة الأولى فيقول : بأنَّا المطعمون و المهلكون و المانعون و النازلون . و لكنَّ إصراره على ذكره ضرورة اقتضاها مقام الفخر بنسبة هذه الأعمال إلى قومه . و لو أنك رجعت إلى مُعَلقة الشاعر التي أوردنا منها هذه الأبيات لوجدت أنه استعان بذكر المسند إليه في مقام الفخر بقبيلته في مواضع كثيرة أخرى غير التي ذكرناها .

و نرى في المثال الرابع الشاعر محمد حسن فقي يمدح الرسول صلوات الله عليه بهذه الأبيات فيقول إن الله - جلّ و علا - قد شاء أن يكون رسوله من بين العرب ، يخرج من جزيرتهم ليكون هداية للعالمين ، و أن يجتمع شمل العرب بالإسلام على يديه ، بعد أن كانوا قبائل متفرقة متنابذة ، و أن تكون دعوة الإسلام التي أُرسل بها محمد -   - هي الشريعة التي ارتضاها الله للبشر على مدى الأزمان ، و أن يَبْلغ الرسول صلوات الله عليه مكانة رفيعة عند الله ، و في قلوب ملايين المسلمين تفوق كل غاية . و نجد الشاعر يكرر المسند إليه - و هو لفظ الجلالة - في كل بيت ، إظهاراً لتعظيم قدر الرسول صلوات الله عليه ، فقد شاءَ الله له كل ذلك و لا راد لمشيئته ، و لولا الرغبة في إظهار التعظيم التي نحسها واضحة في أبيات الشاعر لاكتفى بذكر لفظ الجلالة في البيت الأول دون بقية الأبيات .

و من النماذج السابقة يتبين لنا أن ذكر المسند و المسند إليه معاً في الجمل الاسمية و الفعلية هو الأصل في التركيب اللغوي ، و لكننا نرى في بعض التراكيب أن ذكر أحدهما ليس ضرورياً - لوجود ما يدل عليه في حالة تركه - و على الرغم من ذلك يبقى ما يمكن الاستغناء عنه - سواءَ أكان المسند أم المسند إليه - ليضيف إلى المعنى قيمة جمالية : كإيضاحه و تقريره في ذهن المخاطب ، أو إظهار الفخر ، أو التلذذ ، أو التعظيم ، أو التعنيف و التقريع ، أو غير ذلك من المعاني التي يمكنك إدراكها .

و هناك مواقف تصادفك في حياتك العامة توجب عليك ذكر المسند و المسند إليه في كل جملة - مع إمكان حذف أحدهما لوجود ما يدل عليه - و ذلك حين تشكين في ذكاء سامعك ، أو حين تُدعين للشهادة في قضية ، أو عندما تكتبين صكاً أو يُكتب لك ، دفعاً للبس و أخذاً بالحيطة و منعاً للإِنكار .













حذف المسند و المسند إليه




       نماذج


1 - قال الله تعالى :
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)  [ البقرة : 18 ] .

2 - و قال تعالى :
(أَنَّ اللَّه بَرِيء مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُوله )  [ التوبة : 3 ] .

3 - و قال تعالى :
 (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللّه)  [ لقمان : 25 ] .

4 - قال حاتم الطائي :

أماويَّ لا يُغْنِي التراثُ عن الفتى          إذا حَشْرَجَتْ يومًا و ضاقَ بها الصَّدْرُ

5 - و قال دُريْدُ بن الصمَّة  :

يُغار علينا واترين فَيشتفَى                 بنا إن أُصِبنا أو نُغِير على وِتْر 
كذاك قسمنا الدهرَ شطرين بيننا           فما ينقضي إلا و نحن على شطر

6 - و قال حسن قرشي :

غَرِدٌ مِلْءُ صِباهُ الأغْيَدِ       ساطعُ الغرَّة مِمْراح اليَدِ

شاعرٌ يفتنُّ في أنغامه       و يصوغ الدرَّ كالزهر النَّدِي

عبقريُّ مارِدٌ في فَنِّه         لمسة الشُّهْب و فَوْحُ المعبد





         نظرة تحليلية :

عرفت من الدرس السابق إمكان الاستغناء عن المسند أو المسند إليه لوجود ما يدل عليه دون إبهام أو لبس ، و أن ذكر أيهما في هذه الحالة - مع أنه الأصل يقتضي البحث عن القيمة الفنية التي أُضيفت إلى المعنى بسبب التمسك بالذكر . أما إذا وُجدت القرينة التي تدل على ما يمكن حذفه سواءَ أكان المسند أم المسند إليه ، و لم تكن هناك ضرورة بلاغية تستدعي التمسك بذكر أيهما ، فالحذف في هذه الحالة أوْلى مراعاةً للجمال الفني في التعبير .

و إذا تأملنا النموذج الأول وجدنا الآية الكريمة تتحدث عن المنافقين بوضوح لا لبس فيه ، فقد سبقتها آيات تدل عليهم إذ تقول :

 (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ *مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ)



فتكرار ذكر المسند إليه و هو المبتدأ سواء أكان الاسم الظاهر و هو قولنا : ( المنافقون ) أم اسم الإشارة ( أولئك ) لا ضرورة له من الناحية البلاغية في قوله : ( صم بكم عمي ) لإدراكنا إياه لأول وهلة ، بل إنك تجدين في حذفه قيمة جمالية أفاد منها المعنى و هي تأكيد ذم المنافقين و تحقيرهم لأن التعبير على هذه الصورة يشعر بأن الخبر انطبق تمام الانطباق على المخبر عنه حتى أغنى عن ذكره .

و ترين في النموذج الثاني أن الآية الكريمة تفيد أن الله و رسوله بريئان من المشركين الذين ظلوا على ضلالهم و أبوا الإِقرار بوحدانية الله و دعوة الإسلام ، و قد أفادت الآية المعنى في جملتين اسميتين : الأولى ( أن الله بريءٌ من المشركين ) و الثانية معطوفة على الأولى و هي ( و رسوله بريءٌ منهم ) . فكأن المسند في الجملة الثانية و هو الخبر حذف لوجود قرينة قوية تدل عليه و هو الخبر في الجملة الأولى ، و تكراره لا معنى له ، فالحذف هنا مقصود به الاختصار و الإِيجاز .

و معنى الآية لا يُوجد مجالا لذي بصر و فهم لأن يعطف و ( رسوله ) على المشركين لأن المعنى عندئذ ينافي العقل تماماً .

و ترين في النموذج الثالث سؤالا طرحته الآية الكريمة و هو ( مَنْ خلق السموات و الأرض ) و يشبه إلى حد كبير السؤال الذي تضمنته الآية الأخرى التي تضمنته الآية الأخرى التي حللناها في الدرس السابق
( من يحيي العظام و هي رميم ) . و قد ذكرنا لك من قبل أن الجواب عن مثل هذه الأسئلة لا يتضمن عادة ذكر المسند - و هو الفعل - لوجود ما يدل عليه في السؤال نفسه ، فإذا ذكر الفعل - كما بينا في الدرس السابق - كان ذلك بسبب زيادة في المعنى ، و إذا حُذف كما أجمل في التعبير منعاً لتكرار ذكر الفعل ، و طلباً للإيجاز ، فلم يرد في الآية : ليقولن خلقها الله ، بل ورد : ليقولن الله ، و هكذا الشأن دائماً في جواب من يسأل .

و يقول حاتم الطائي في المثال الرابع مخاطباً زوجته : إن المال لا يغني عن الإنسان شيئاً إذا انتهى أجله ، و ترين الشاعر في الشطر الثاني لم يذكر فاعل ( حشرجت ) و هي النفس ، لأن اختصاص الحشرجة و ضيق الصدر منوط بها ، و بذلك تتعين لنا تماماً و لا ينصرف ذهننا إلى غيرها . كما أن تاءَ التأنيث التي ألحقت بالفعل زادتنا تأكيداً بأن النفس هي المقصودة ، فحذف الفاعل هنا لم يتم لمجرد الاختصار بل لإظهار تعيُّنه ، فهو ليس مضمراً لأنه لم يتقدم له ظاهر يفسره و إنما دلت القرينة الحالية عليه .


و لو تأملنا كلامنا العادي و ما نقرؤه من نصوص في الشعر و النثر لوجدنا أن الفاعل يُحذف عادة لعدم العلم به ، كما لو قلنا : ( قُطِعَت الكهرباءُ ) و لا ندري مَنْ الذي قطعها ، أو للعلم به و لكننا لا نريد أن نكشف عنه لسبب من الأسباب . و يحدث ذلك دائمًا حين يُبنى الفعل للمجهول كما نتبين في المثال الخامس الذي يصف فيه الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة حياة العرب في جاهليتهم قبل أن يشرق عليهم نور الإسلام فيقول إنهم في حرب مستمرة : مرة يهاجمهم أعداؤهم لإدراك ثأرهم و أخرى هم يهاجمون أعداءَهم بسبب الثأر أيضاً . و نرى الشاعر يحذف المسند إليه - و هو الفاعل - في ثلاثة مواضع من البيت الأول حين يستخدم الأفعال المبنية للمجهول ( يُغار ) و ( يُشتفى ) و ( أُصبنا ) . و هو لا يجهل الفاعل الحقيقي و لكنه لا يرغب في تحديد قبيلة بعينها و إنما يريد التكثير من الأعداء الذين يغيرون عليهم و يشتفون منهم و يصيبونهم . و لو ذكر الفاعل الحقيقي لضاع المعنى المقصود كذلك نراه في البيت الثاني يحذف المسند إليه - و هو فاعل ينقضي - اكتفاء بالضمير المستتر في الفعل لوجود قرينة قوية تدل عليه دون غيره و هو الدهر ، فالذكر هنا زيادة غير مستحبة لتكرر اللفظ دون وجود غاية جمالية .


و يُحيي الشاعر السعودي المعاصر حسن قرشي في المثال السادس ذكرى الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي فيمدحه بهذه الأبيات ، و نراه يقول : غرد ، شاعر ، عبقري ، مارد . و كل لفظ منها خبر لمبتدأ محذوف تقديره ( هو ) ، فلماذا حذف الشاعر المسند إليه - و هو المبتدأ - في الأبيات الثلاثة ؟

من الواضح أن المقصود هو التعظيم ، و كأن الممدوح متعيِّن بحيث لا ينصرف الذهن إلى غيره . و من عادة الشعراء العرب في مديحهم - منذ العصور القديمة - أن يفعلوا ذلك ، فهم يأتون بالخبر المبني على المبتدأ المحذوف حين يذكرون الممدوح فيقولون : فتى من صفته كذا أو قوم من صفتهم كيت و كيت .




و يتبين لنا من هذه النماذج أن حذف المسند أو المسند إليه فيما نستخدمه من التراكيب اللغوية أجدى على جمال التعبير من ذكره إذا وُجدت في الكلام قرينة تدل على المحذوف بحيث يدركه الذهن لأول وهلة . و حذف المسند إليه في هذه الحالة يفيد أغراضاً كثيرة تزيد المعنى قوة و جمالا . فقد رأينا في الأمثلة السابقة أنه أفاد تأكيد الذم أو المدح أو ادعاء تعيُّنه ، أو تكثير الفائدة منه ، أو لإدراك فضيلة الإيجاز في التعبير . و هو يفيد أغراضاً أخرى كثيرة ندركها في حياتنا اليومية . فكثيراً ما نحذف المبتدأ لضيق المقام بسبب المرض فأنت تجيبين من يسألك : كيف أنت ؟ فتقولين : مريضة ، و لا تقولين : أنا مريضة ، كذلك عند التنبيه على خطر حين تصيحين : حريق !


حذف المفعول به


           نماذج




1- قال الله تعالى :

 (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)


 [ البقرة : 245 ] .

2 - و قال تعالى :
 (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ) [ يس : 43 ] .

3 - قال الرسول :  
 كلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا مَنْ أَبَى   [ رواه البخاري عن أبي هريرة ] .

4 - قال أبو العتاهية  :

إني تركتُ عواقبَ الدنيا       فتركتُ ما أهوى لما أخشى

5 - و قال طاهر زمخشري :

و خَيْر الجُود بين الناس وُدٌ      و أكرمُ من يصافحُك الوَدودُ

متى أعطى نَعِمْتَ بخير ورْدٍ         عذوبته المَسَرَّةُ و الجَدودُ



            نظرة تحليلية :

عرفت فيما سبق دواعي ذكر أحد ركني الإسناد الذي يقوم عليه المعنى في الجملة الخبرية و الإنشائية عندما يجوز لنا حذفه ، كما عرفت دواعي حذفه عندما لا يُخِلُّ ذلك بالمعنى ، بل يكون في الحذف زيادة في المعنى و إضفاء قيمة جمالية عليه .

و لا يقتصر الذكر و الحذف على ركني الإسناد في الجملة ، فأنت تعلمين من دروس النحو أن للفعل
متعلقات هي معمولاته كالمفاعيل و ما يشبهها من حال و تمييز و استثناء ، و أهم المتعلقات المفعول به للفعل المتعدي الذي يحتاج إلى مفعول به أو أكثر . و من الطبيعي حين نستخدم فعلا متعدياً في الجملة أن نذكر مفعوله فنقول : أعطاني أبي جائزة لتفوقي . فالفعل أعطى هنا له مفعولان : (( أنت )) الذي أُعطيت ، و الشيءُ الذي أعطاه لك أبوك و هو (( الجائزة )) . و لكننا حين نتأمل ما نقرؤه من شعر و نثر و ما نتكلمه في أحاديثنا العادية نجد أن المفعول به للفعل المتعدي قد يُحذف و لا يُخِلُّ ذلك بالمعنى ، و لا يمنع فهمنا الغاية المقصودة للتعبير اللغوي ، بل نجد الحذف دائماً يزيد المعنى قوة و وضوحاً و جمالاً ، و يلفت نظرنا إلى أمور ما كنا نستطيع إدراكها إذا ذكر المفعول به .
 و إذا تأملنا النموذج الأول وجدنا أن معنى قوله جلَّ و علا في آياته الكريمة : من هذا الذي ينفق في سبيل الله فيعين ضعيفًا ؛ أو يقوِّي فقيراً أراد الجهاد في سبيل الله . و ذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه . و سوف يجزيه الله على قرضه أضعافاً مضاعفة . ثم يقول سبحانه إنه وحده يقبض الرزق أي يضيِّقه عمن يشاءُ من  خلقه ، و يبسطه أي يوسعه على من يشاءُ منهم . فكأن مفعولي يقبض و يبسط - و هما كلمة ( الرزق ) - محذوفان ، فما وجه الجمال البلاغي في حذفهما ؟ إن المفعول به هنا معلوم أنه ليس للفعلين في الآية الكريمة مفعول به سواه ، بدليل ما سبق من الكلام ، فحذفه يلفت القارئ لفتاً قوياً إلى إثبات الفعل للفاعل بحيث تتجه الأذهان إليه و تنحصر الأفكار فيه . فإثبات فعل ( القبض ) و ( البسط ) و نسبتهما إلى الله سبحانه مقصود لذاته ، حتى يبين للناس كافة أنه حين يستقرضهم فلخيرهم ، لأنه قادر على أن يعين الفقير و الضعيف دون وساطة البشر ، و قادر على كف يده عن الغنيِّ البخيل لعقابه ، و كأن الفعل المتعدي هنا نزل منزلة اللازم .


و نرى في النموذج الثاني الفعل ( نشأ ) مجزوماً و قد حذف مفعوله . و المعنى المفهوم من الآية : إن نشأ إغراقهم نغرقهم ، فلماذا حذف المفعول به من الآية ؟ نلاحظ دائماً أن فعل المشيئة والإرادة إذا وقع شرطاً فالجواب يدل عليه و يبينه بحيث لا يختلف اثنان في أن المفعول به المحذوف في الآية هو ( إغراقهم ) لأن جواب الشرط هو ( نغرقهم ) . و كذلك الأمر في قوله تعالى : ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) لا يختلف اثنان في أن المفعول به المحذوف ( هدايتكم ) .
 و حذف المفعول به في مثل هذين النموذجين يحيط المعنى بنوع من الإِبهام يجعل القارئ أو السامع متشوقاً إلى معرفة مفعول المشيئة ، ثم يأتي جواب الشرط فيوضحه له و يدله على ما أُبهم عليه .

و إذا كان فعل المشيئة و الإرادة متعلقاً بشيءٍ غريب غير معهود فإن المفعول به حينئذٍ لا يحذف كما في قول الشاعر أبي يعقوب الخريمي  .

و لو شئت أن أبكي دمًا لبكيتُهُ                     عليه و لكنْ ساحة الصبر أوسعُ

فالشاعر في رثائه يستخدم فعل المشيئة شرطاً ، و لكنه عَلَّق به شيئاً غريباً غير معهود و هو البكاءُ بالدم دون الدمع ، و لهذا أثبت المفعول به ( أن أبكي دماً ) و لم يحذفه ، لأن جواب الشرط ( لبكيته ) لا يمكن أن يوضح المفعول به المقصود غير العادي ، فذكر المفعول به هنا واجب ليتقرر معناه في نفس السامع .

و نرى في النموذج الثالث أن الرسول صلوات الله عليه ، يستخدم الفعل ( أبى ) و قد حذف مفعوله ، وواضح أن معنى الحديث الشريف : كل المسلمين يدخلون الجنة إلا من أَبى دخولها . فالمفعول به معلوم لسبق الفعل ( يدخلون ) و حذفه اختصاراً يضفي على التعبير جمالا ، كما أنه يثير الانتباه إلى الفعل ( أبَى ) ، ليسأل السامع : و مَنْ مِنَ المسلمين يأبَى أن يدخل الجنة ؟ فيقول الرسول -   - لمَنْ سأله : مَنْ أطاعني دخل الجنة ، و مَنْ عصاني فقد أبَى . فمفهوم الفعل ( أبَى ) موضوع أساسي أراد الرسول - صلوات الله عليه و سلامه - أن يلفت النظر إليه ، لأن الإباء مرتبط بارتكاب المعاصي ، و لهذا حذف المفعول به حتى لا يتردد الذهن بين الفعل و مفعوله ، و لأن المفعول به معلوم ظاهر أيضاً .

و ليس الشأن كذلك في قوله تعالى :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)

لأنه لو قال : ( فأبين ) دون أن يذكر المفعول به ، لاتجه الذهن إلى إبائهن ما عُرض عليهن معصيةً منهن - حاشا لله - فكان لابد من ذكر المفعول به في الآية حتى يتبين أنهن أبين حمل الأمانة إشفاقاً منها ، فالفعل ليس مطلوباً لذاته و لكن مع مفعوله .

و يقول أبو العتاهية في النموذج الرابع أنه ترك ملذات الدنيا و ملاهيها ، لا لأنه يكرهها ، بل لخوفه من عذاب الله يوم القيامة . و قد استخدم الفعلين ( أهوى ) و ( أخشى ) دون أن يذكر مفعوليهما ، و لا شك عندنا
في أنه يريد أن يقول : تركت ما أهواه لما أخشاه ، و الضمير مفعول أهواه يشير إلى ملذات الدنيا التي عبر عنها الشاعر بكلمة ( عواقب ) فترك المفعول به هنا اختصار جميل . أما الضمير مفعول أخشاه فهو يشير إلى عذاب الله دون وجود ما يدل عليه في البيت ، و لكن حذف المفعول به ادعى تعيُّنه بحيث لا ينصرف ذهننا إلى شيء غيره .

و نرى الشاعر طاهر زمخشري في النموذج الخامس يقول إن الود إذا شاع بين الناس فهو خير أنواع الكرم ، و إن الودود هو خير من تتخذه صديقاً لأن عطاءَه لك يعقب سعادة و سروراً .

و نرى الشاعر قد استخدم الفعل ( أعطى ) و هو كما نعلم يحتاج إلى مفعولين دون أن يذكر مفعوليه : أعطى من ؟ و ماذا أعطى ؟ و المفهوم من المعنى أن الشاعر يريد أن يقول : متى أعطاك وده ، نعمت بخير ورد ، و لكنه بحذف المفعولين أفاد التعميم ، و كأنه أراد أنَّ الودود يعطيك و يعطي غيرك من أصدقائه و القريبين منه وده و محبته و عطفه و بره ، إلى غير ذلك من المعاني التي يمكن أن نتخيلها من وراء المفعول به المحذوف .

و من النماذج السابقة يتبين لنا أن حذف المفعول به من الجملة حيث لا ضرورة لذكره ، يكسب التعبير قوة و جمالاً ، و يفيد من المعاني ما لا يفيدها ذكره ، فقد رأينا من الأمثلة أن الحذف أفاد الإِيضاح بعد الإِبهام ، و الاختصار ، و التعميم ، و ادعاء التعيُّن ، و إثارة الانتباه ، و إثبات الفعل للفاعل ، و توجيه الذهن إلى الفعل ، إلى ما سوى ذلك من أغراض يمكنك أن تتبيَّنها بنفسك بتحليل الجمل لإدراك القيمة البلاغية بسبب حذف المفعول به فيها . فإذا قرأتِ مثلا قول السيدة عائشة - رضي الله عنها - في حديثها عن معاشرتها للرسول صلوات الله عليه : (( و اللهّ ما رأى مني و لا رأيتُ منه )) أدركتِ أن المفعول به المحذوف في الموضعين بعد الفعل ( أرى ) هو العورة و أن الغرض من حذف المفعول به هنا استهجان ذكره . كذلك يمكنك أن تتبيني في بعض الأقوال أن حذف المفعول به يكون أحياناً لتعمد إخفائه ، أو لإمكان إنكاره ، و في بعض الأحيان يشارك حذف المفعول به في إحداث حلية شكلية ، و نعني بها الانسجام الموسيقي في العبارة ، كمراعاة الفاصلة في قوله تعالى :



(وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)   أي و ما قلاك ، فحذف المفعول به لغرضين : مراعاة النسق الموسيقي ، و هذه ناحية شكلية ، و تجنب وقوع فعل الكراهية على الضمير العائد إلى الرسول صلوات الله عليه ، و هذه ناحية معنوية دقيقة تشير إلى تكريم الله تبارك و تعالى لرسوله الأمين .





 أو لانتهاز فرصة حين نقول للصائد : غزال ! أو ليتيسر لك الإنكار لو قلت في ذم شخص مثلا : كاذب ، دون أن تحددي اسمه .

كذلك نحذف المسند إذا كان خبراً للاختصار و عدم التكرار ، كما رأينا في النموذج الثاني ، أو لضيق المقام حين نقول : خرجت فإذا النار . فالمفاجأة تمنعنا من ذكر الخبر و تقديره ( مشتعلة ) .

 و يحذف المسند إذا كان فعلاً لتجنب تكراره ، و طلباً للاختصار كما رأينا في النموذج الثالث و أغراض حذف المسند أو المسند إليه كثيرة ، لا سبيل إلى حصرها ، و ما قدمناه من أمثلة يفتح لك طرق إدراكها ، و تعيين مواضعها ، و تذوّق ما بها من جمال فني .








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق