أ . طرق القصر و طرفاه
نماذج
1 - قال الله تعالى :
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [ المائدة : 75 ] .
2 - قال الرسول :
إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئٍ ما نوى [ متفق عليه ] .
3 - قال المتنبي :
على قدْر أهل العزم تأتي العزائمُ و تأتي على قدر الكرام المكارمُ
4 - قال طاهر زمخشري :
ما تزيَّنَّ بالذي يُكْسِبُ الاسم مُجوناً و بهرجاً و غروراً
بل تحلَّيْن بالذي يجعل الد ور جِناناً و المُحْصناتِ بُدورًا
5 - قال محمد حسن فقي :
ما يُنجب الصِّيدَ الأشا وِسَ للملاحم غيْرُ صِيدِ
نظرة تحليلية :
إذا تأملتِ النماذج السابقة وجدت أن كلا منها يخصص أمراً بآخر و يقصره عليه ، فالآية الكريمة تفيد أن المسيح عليه السلام مقصور على كونه رسولا مثله في ذلك مثل الرسل الذين سبقوه ، فهو من البشر إذن و ليس ابن الله كما يدعي النصارى ، تعالى الله علوّاً كبيراً .و ترين في النموذج الثاني أن الرسول صلوات الله عليه أفاد تخصيص الأعمال بالنيات ، و تخصيص
ما يحدث للإنسان من خير أو شر بما يضمره في نفسه ، فكأنه قصر أعمال الإنسان على نواياه دون غيرها ، فإذا انتوى الإنسان فعل خير و لم يعقب علمه خيراً فالحكم في ذلك مرجعه إلى نيته ، و قد أراد الرسول صلوات الله و سلامه عليه بتخصيص العمل بالنية تنبيهنا إلى أهمية تطهير نفوسنا ، و أن الله جلَّ و علا عليم ببواطن نفوس البشر .
و نرى المتنبي في النموذج الثالث يقول إن العزائم تأتي على قدر أهل العزم ، و المكارم تأتي على قدر الكرام ، و هو يعني أن الأفعال مرتبطة بهمم أصحابها و قدراتهم ، فالعزائم إذن مقصورة على قدر أهل العزم ، و المكارم مرتبطة بقدر الكرام .
كذلك نرى طاهر زمخشري في النموذج الرابع يتحدث عن الفتيات السعوديات اللائي سعين إلى رحاب العلم و الثقافة فقال : إنهن ما تحلَّين بقشور الحضارة الزائفة و بهرجها و غرورها ، و لكنهن يتلَّقين العلم لصلاح دينهن و دنياهن ، و يتعلَّمن ما يجعل من بيوتهن جنات ، و من أنفسهن مصدر إشعاع و هداية ، و هذا المعنى هو ما أراد الشاعر تخصيصه ليبين لنا فضل العلم على الفتاة في إطار الدين و المثل الإسلامية .
و في النموذج الخامس يخص الشاعر محمد حسن فقي الصِّيد وحدهم - أي الأشراف الكرام - بإنجاب الصِّيد أمثالهم الذين يظهرون البطولة و الإقدام في الملاحم و الحروب .
و أسلوب التخصيص الذي رأيته في النماذج السابقة و هو تخصيص أمر بآخر و قصره عليه يسمى القَصْر ، و قَصَرَ في اللغة بمعنى حَبَسَ ، فالمقصود ( بقصر المعنى أو حبسه ) ( تخصيصه ) .
و لعلك لاحظت من النماذج السابقة استخدام أكثر من وسيلة لإفادة التخصيص أو القصر . ففي الآية الكريمة نجد في الجملة الأولى أداة النفي ( ما ) و أداة الاستثناء ( إلا ) ، و نجد في الحديث الشريف أن وسيلة القصر أو التخصيص في الجملتين ( إنما ) . أما في بيت المتنبي فنلاحظ تقديمه عبارة ( على قدر أهل العزم ) في الشطر الأول على الفعل ( تأتي ) و حقها التأخير لأنها متعلقة بالفعل ، فكأن وسيلة القصر هنا تقديم ما حقه التأخير .
و في النموذج الرابع نجد الشاعر أفاد التخصيص باستخدام أداة النفي ( ما ) و حرف العطف ( بل ) ، أما النموذج الخامس فوسيلة التخصيص أو القصر فيه هي نفسها التي لاحظناها في الآية الكريمة في المثال الأول إلا أنه استخدم أداة الاستثناء ( غير ) مع أداة النفي ( ما ) التي سبقتها .
و من النماذج السابقة يتبين لك أن طرق القصر أربع :
النفي و الاستثناء ، إنما ، العطف بلا أو بل أو لكن ، تقديم ما حقه التأخير ، كتقديم الخبر على المبتدأ أو بعض معمولات الفعل عليه .
و لعلك لاحظت في النماذج السابقة وجود طرفين في أسلوب القصر مقصور ، و مقصور عليه . فالمقصور في الآية المسيح ابن مريم و المقصور عليه رسول .
و في حديث الرسول المقصور في الجملة الأولى الأعمال و المقصور عليه النيات ، و في الجملة الثانية المقصور كل امرئٍ و المقصور عليه ما نوى . أما في بيت المتنبي فالمقصور العزائم و المقصور عليه قدر أهل العزم . و نجد المقصور في بيتي طاهر زمخشري قوله : ( تحليَّن ) و المقصور عليه ( بالذي يجعل الدور جناناً و المحصنات بدوراً ) . أما النموذج الأخير فالمقصور فيه هو قوله : ( ينجب الصيِّد الأشاوس ) و المقصور عليه : ( الصِّيد ) .
و من الطبيعي أن ندرك في كل تعبير ما الشيء الذي أردنا قصره أي تخصيصه ، و على أي شيءٍ قصرناه . و يستخدم أسلوب القصر في تأكيد المعنى و كأنه رد على نفي الوصف عن الموصوف أو ادعاء اشتراك غيره معه في هذا الوصف ، و كلما كان النفي صريحاً كان التأكيد أقوى ، و لهذا نحسُّ في استخدام النفي و الاستثناء وسيلة لرد الإنكار الشديد .
و من السهل أن ندرك مكان المقصور و المقصور عليه لو تتبعنا المعنى في كل تعبير . ففي الطريقة الأولى من طرق القصر يكون المقصور بعد أداة النفي ، و المقصور عليه بعد أداة الاستثناء . كذلك الأمر في العطف بلكن و بل يكون المقصور عليه بعدهما و يكون المقصور بعد أداة النفي . في حين أن العطف بلا يجعل المقصور عليه مقابلا لما بعدها ، كما في قولكِ : محمد كريم لا بخيل ، فالمقصور هو محمد ، و المقصور عليه كريم لأنه مقابل بخيل .
و في حالة التقديم يكون المقصور عليه هو المقدّم و المقصور المتعلق به .
ب . القصر بحسب أنواعه
نماذج
1 - قال الله تعالى:
(وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) [ النحل : 77 ] .
2 - قال الرسول:
إنما بُعِثتُ لأتَمِّمَ صالح الأخلاق [ أخرجه البخاري في الأدب و المفرد و البيهقي و ابن سعد ] .
3 - جاء في الأمثال :
إياك أعني و اسمعي يا جارة .
4 - قال ابن الرومي :
أموالُهُ في رقابِ الناسِ مِنْ مِنَنٍ لا في الخزائنِ مِنْ عَيْنِ و من نَشَبِ
5 - و قال أيضاً في رثاء ولده :
ما أصبحَتْ دنيايَ لي وَطَناً بل حيثُ دارُك عِنْديَ الوَطَنُ
نظرة تحليلية :
عرفتِ من الدرس السابق معنى أسلوب القصر و طرقه و متى يحسن استخدامه ، كما عرفت أنه يقوم على طرفين : المقصور و المقصور عليه ، و إذا نظرت في النماذج التي أمامك لتعيِّني مواضع طرفي القصر في كل منها فستجدين أن الآية الكريمة استخدمت النفي و الاستثناء ، فالمقصور هو أمر الساعة و المقصور عليه كونها كلمح البصر . كما استخدم الحديث الشريف ( إنما ) فالمقصور ( بُعثت ) و المقصور عليه ( كونه متمماً لمكارم الأخلاق ) .
أما المثل في النموذج الثالث فقد استخدم - كما ترين - أسلوب تقديم ما حقه التأخير في قوله : إياك أعني ، و أصل التعبير : أعني إياك ، فالمقصور عليه إياك و المقصور أعني .
و استخدم ابن الرومي في المثال الرابع العطف بلا ، فالمقصور أمواله و المقصور عليه كونها في رقاب الناس ، و استخدم في المثال الخامس النفي و العطف ببل ، فالمقصور الوطن و المقصور عليه الدار التي انتقل إليها ولده و هي قبره . و إذا تأملت النماذج السابقة وجدت أن القصر ينقسم بحسب أنواعه إلى نوعين ظاهرين : الأول : قصر الموصوف على الصفة ، و الثاني : قصر الصفة على الموصوف ، و نعني بالصفة : الصفة المعنوية أي المعنى الذي يقوم بغيره ، و هي أعم من الصفة المعروفة لنا في دروس النحو ، و لذلك تشمل الصفة المعنوية الفعل و نحوه .
و معنى قصر الصفة على الموصوف أن الصفة لا تتعدى الموصوف إلى موصوف غيره ، فهي مختصة به ، مقصورة عليه . أما قصر الموصوف على الصفة فمعناه أن الموصوف لا يفارق الصفة المثبتة له إلى غيرها .
و لنعد إلى النماذج لنرى إلى أي نوع ينتمي كل منها :
في الآية الكريمة قصر الموصوف و هو أمر الساعة على الصفة و هي لمح البصر ، و في الحديث الشريف قصر الرسول بعثته و هي الموصوف على إتمام مكارم الأخلاق و هي الصفة .
و في المثل قصر الصفة و هي العناية على الموصوف إياك .
أما ابن الرومي في بيته الأول فقد قصر الموصوف و هي الأموال على الصفة و هي كونها في رقاب الناس . و نراه في بيته الثاني يقصر الموصوف و هو الوطن على الصفة و هي كونه قد أصبح حيث يقيم ولده .
و تستطيعين في ضوءِ هذا التقسيم لأسلوب القصر بحسب طرفيه أن ترجعي إلى النماذج التي مرت بك في الدرس السابق لتري إلى أي نوع ينتمي كل نموذج منها : قصر الصفة على الموصوف ، أو قصر الموصوف على الصفة ، و لتسألي نفسك بعد ذلك : ما الفرق بين النوعين ، و ما تأثير هذا الفرق في بلاغة الكلام و إصابة المعنى المراد ؟ إنك إذا قلت : ما محمد إلا كاتب ، قصرت محمداً على مهنة الكتابة ، أي قصرت الموصوف على صفة بعينها ، و كان استخدامك هذا التعبير للرد على مَنْ اعتقد أن محمداً شاعر و كاتب ، فأردت أن تبيني له أن الموصوف و هو محمد يقتصر على صفة واحدة و هي الكتابة .
أما إذا استخدمت أسلوب قصر الصفة على الموصوف فستقولين : لا كاتب إلا محمد ، و سترين هنا أن المعنى تغير تماماً ، الغاية التي قصدتِها من هذا التعبير . فأنت هنا تقصرين صفة الكتابة على محمد و هو الموصوف ، و يكون ذلك رداً على من اعتقد أن غير محمد يشترك معه في هذه الصفة ، و أردت أن تنفي ذلك الاعتقاد و تقصري الكتابة على محمد وحده .
جـ . القصر بحسب الحقيقة و الواقع
نماذج
1 - قال الله تعالى :
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هو) .
[ الأنعام : 59 ]
2 - قال تعالى :
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ)
[ آل عمران : 144 ] .
3 - قال لبيد بن ربيعة :
و ما المرءُ إلا كالشِّهاب وضوئِهِ يَحورُ رماداً بعد إذْ هو ساطِعُ
4 - قال حسان بن ثابت :
و إنما الشِّعرُ لُبُّ المرءِ يعرِضُهُ على المجالس إنْ كَيْسَاً و إن حُمُقَا
5 - قال السَّيِّد الحَمْيَرِي :
لو خُيِّرَ المنيرُ فرسانَهُ ما اختار إلا منكُمُ فارسا
نظرة تحليلية :
عرفنا من الدرس السابق أن أسلوب القصر ينقسم بحسب طرفيه المقصور و المقصور عليه إلى : قصر الصفة على الموصوف ، أو قصر الموصوف على الصفة ، و لو تأملت النماذج التي نعرضها عليك الآن في ضوء الحقيقة و الواقع لوجدت أن قوله تعالى في الآية الكريمة يعني أن : العلم بأسرار الغيب مقصور على الله سبحانه و تعالى بحيث لا يتجاوزه إلى غيره ، و هذه حقيقة لا شك فيها ، و لهذا نقول إن أسلوبالقصر هنا قصر صفة على موصوف قصراً حقيقيًا . أما الآية الثانية فالتخصيص فيها أن محمداً - - رسول ، و لكن ليس معنى هذا التخصيص أنه لا يتجاوز الرسالة إلى شيءٍ آخر يمكن أن يتصف به ، فكونه رسولاً يؤكد كونه بَشَراً لا ملَكاً و لكنه لا ينفي صفات أخرى يمكن أن تضاف إليه ككونه عربيًّا ، قرشيًّا ، أميًّا ... إلخ .
فالقصر هنا ليس حقيقياً لأننا قصرنا الموصوف على صفة يمكن أن يجتمع معها غيرها ، فالمقصور مختص بالمقصور عليه بحسب الإِضافة إلى شيءٍ آخر معين و هي صفة الرسالة المتضمنة صفة البشرية و التي لا تمنع أن تجتمع معها صفات أخرى . و الإضافة تكون بحسب اعتقاد المخاطب فإذا قلت : ما المتنبّي إلا شاعر فأنتِ تقولين ذلك لمن يعتقد اتصافه بالشعر و الكتابة معاً ، أو بالكتابة دون الشعر ، أو لمن كان متردَّداً بين الصفتين فأردت أن تحدِّدي له واحدة منهما . و لهذا نسمي هذا النوع من القصر إضافيًا .
و نجد في المثال الثالث أنَّ المرء مقصورٌ على كونه مثل الشهاب ، ربما تراه مشرقاً ساطعاً ، ثم لا يلبث أن يحترق و يتحول إلى رماد ، و كذلك الإنسان ربما وافته مَنِيَّته و هو أتمُّ ما يكون صحة و قوة . و نوع هذا القصر باعتبار طرفيه - كما ترين - قصر موصوف على صفة ، فإذا نظرنا إليه من ناحية الحقيقة و الواقع وجدناه قصراً إضافياً لأن تخصيص المرء بكونه كالشهاب ليس أمراً حقيقيا بحيث لا يتعدى الموصوف هذه الصفة إلى غيرها .
كذلك الأمر بالنسبة إلى قول حسان بن ثابت فقد قصر الشعر على كونه لبَّ المرءِ فقصر موصوفاً على صفة قصراً إضافياً ، لأن الشعر كما يمثِّل في قول حسان عقل المرء و فكره ، يمثِّل عند غيره شعوره و حسه ، أو روحه ، أو وجدانه ، فالموصوف مختص بالمقصور عليه بالإضافة إلى صفة بعينها و بحسب اعتقاد المخاطب .
و في المثال الأخير نجد الشاعر يقصر صفة على موصوف ، فالمنبر لن يختار فارساً إلاَّ منهم إذا تُرك له مجال الاختيار ، و القصر هنا - كما هو واضح - ليس حقيقياً باعتبار الواقع ، فالمنبر لن يختار فارساً منهم و لا من غيرهم ، إذ يستحيل أن يحدث ذلك ، و لكن الشاعر أوهمنا بهذا القصر الإِضافي بإمكان تحقيق ذلك .
و لعلَّنا لاحظنا من الأمثلة السابقة أن الأول منها كان - باعتبار طرفيه - قصر صفة على موصوف ، و كان - باعتبار الحقيقة و الواقع - قصراً حقيقيًا .
أما الأمثلة الثلاثة الأخرى فكانت قصر موصوف على صفة و كان القصر فيها إضافياً . كذلك كان المثال الأخير قصر صفة على موصوف و كان القصر فيه إضافيًّا .
و القصر الحقيقي يكثر في قَصْرِ الصفة على الموصوف ، و يندر في قصر الموصوف على الصفة ، بينما يأتي القصر الإضافي كثيراً في قَصْر الصفة على الموصوف و قصر الموصوف على الصفة ، و هو يرتبط إلى حد كبير بالقدرة على التخييل و الإيهام و تقريب غير الممكن و البعيد بحيث يصير ممكناً و قريباً ، كما نرى في الأمثلة التي مرّت بنا ، و هو مجال رحيب يبدع فيه الشعراء و الكُتَّاب و يظهرون به قدرتهم على التخييل و التصوير .
و هكذا نرى أن القصر ينقسم بحسب الحقيقة و الواقع إلى قسمين :
قصر حقيقي : و فيه يختص المقصور بالمقصور عليه من ناحية الحقيقة و الواقع فلا يتعداه إلى غيره قط .
و قصر إضافي : و فيه يختص المقصور بالمقصور عليه عن طريق الإضافة إلى صفة بعينها أو موصوف بعينه بحسب اعتقاد المخاطب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق